استشهــــاد القديـس
كانت دمياط في هذه الأيام مدينة كبيرة تعد ثاني بلد بالإقليم المصري بعد القاهرة وذلك بحسب تقدير كلوت بك في كتابه ( لمحة عامة عن مصر عام 1830 ) . وتم في عصره بداية توسيع ميناء الإسكندرية وحفر ترعة المحمودية عام 1830 م فدب العمل في مدينة الإسكندرية ، وقد هاجر قديسنا إلى الإسكندرية ولم يحضر إلى دمياط كثيراً فكان يحضر لاستلام الأخشاب من الجمرك الذي كان يلتزم به حنا فخر الدمياطي السوري الأصل ، وكان هناك عدداً ليس بقليل من اليهود المقيمين بدمياط وكان لهم معبداً بوكالة الصالون ( آل إلى جامع ما زال إلى اليوم خراباً ) وكان معظم سكان حارة النصارى من المسيحيين يسكن بينهم بعض الأسر الإسلامية التي كانت تعيش جنباً إلى جنب معهم وكان أبرز قساوسة الكنيسة الرومية ( القس جبرائيل وهبة بدمياط ) .
وأما كهنة الكنيسة القبطية فكان منهم القمص يوسف ميخائيل والقمص حنا يوسف . وكان ميخائيل سرور بك قنصلاً لست دول على الثغر سنة 1840م وهو رومي الأصل وكان عدد الأسر للروم الأرثوذكس نحو مائتي أسرة وحوالي 25 أسرة من الكاثوليك ، 20 أسرة من الأقباط . لكن الوضع تغير الآن حيث أرتفع عدد الأقباط الوطنيين ولم يتبق اليوم سوى عدد أفراد قلائل من الروم وقد أنضم الكل إلى طائفة الأقباط .
ظروف استشهاد مارسيدهم
يبدو أن جو دمياط الاجتماعي كان سيئاً منذ بداية عصر محمد على حيث كانت منفى لكثيرين من السياسيين وسجناً للجنود الألبانيين وغيرهم .. الذين كانوا يسيئون معاملة الأقباط ظناً منهم أن لهم صلة بالصليبيين ، ويتضح ذلك بالأكثر مما حكاه التقرير المقدم للخديوي في ذلك الحين ونقتصر منه على بعض الحوادث التي ربما عجلت بحادثة القديس مار سيدهم بيشاى
1- حادثة فى نفس الشهر
حدث قبل استشهاد القديس مارسيدهم بيشاى بنحو أسبوعين حيث حضر رجل أرمني صنعته دخاخنى بثغر الإسكندرية قام باستئجار محل بوكالة بدر الدين للتجارة ، ولكن لما رأى ضيق الحال أراد أن يهاجر خارج الديار المصرية ولم يكن له تذكرة الخروج ، وحاول الحصول عليها باطلاً مما أضطره بدافع من كثيرين أن يقدم طلب إسلامه للمحافظة الذي أسرع بالموافقة فصارت له زفة كبيرة في شوارع بالطبول والزمر والبارود ، حيث أركبوه على حصان وكانوا يطفون به البلدة ويرجمون بيوت المسحيين بالحجارة ويهللوا عليهم ... كل هذا أثر في الجو العام للبلدة وعجل فيما بعد بحادثة القديس مارسيدهم بيشاى .
2- حادثة المعلم إلياس الرومى
بعد تلك الحادثة بعدة أيام كان المعلم إلياس يوسف باش كاتب شئون الأصناف خارجاً من بيته صباحاً ومتوجهاً إلى محل عمله فصادف في الطريق ولد شرير ظل يسير وراءه متحركاً بالشتائم الرديئة وكان يسبه بدينه وقد أنضم إلى الولد أيضاً آخرين ، وأبتدأوا يرجمون المعلم بالحجارة أخيراً تحركت الغيرة في المعلم إلياس وأراد أن يضرب الولد ففر هارباً لكنه توجه إلى المحكمة وأشتكى عليه زوراً " إن النصراني ضربني بالكف " ، فحالاً استدعاه القاضي وأرسل معه مكتوباً إلى المحافظ ليعرضوا عليه الإسلام ... ولكن لما أحضروه أمام المحافظ دبرت العناية الإلهية وجود الخواجة فرنسيس دبانة والخواجة يعقوب يكن وغيرهما من كبراء القناصل ولولا وجودهم لحدث له الكثير من العذاب والضرب وربما إنتهى إلى القتل .
3- حادثة باسيلى الخولى الرومي
بعد الحادثة السابقة بنحو أسبوع كان باسيلى الخولى وهو يسافجى بطرف قنصليات دولة النمسا وله طرف درويش التاجورى دراهم ، ولما أحتاجها جاء يطلبها منه . لكن درويش فاجأه بالشتائم الصعبة وقال له : " يا ملعون ليس لك عندي شئ " ، ولما قال له الخواجة باسيلى : " لماذا تشتمني ، أنا بطالب فقط بحقي " ... فما كان من درويش أن قام عليه وصفعه بالكف على وجهه ثم انهال عليه بالعصي على رأسه ، وبعدها تجمع خمس من عبيده وأوسعوه ضرباً .. ثم أرسل درويش قواصاً من طرف المحافظ وإدعى علي باسيلى أنه هو الذي ضربه وأحضر شهود زور كما هو جارى العادة ، مع أن الخواجة باسيلى رجل هادئ الطبع جداً ولم يسمع عنه قط أنه تشاجر مع أحد بالبلدة .
4- حادثة القديس مارسيدهم بيشاى
حدث بعد يومين من الحادثة السابقة فى شهر مارس سنة 1844م ، كان القديس مارسيدهم بيشاى يقضى بعض الوقت بالثغر نازلاً طرف أخيه بمنية دمياط بحارة النصارى وقد يطول الوقت منظراً فيه قدوم الأخشاب ... وطوال الفترة كان شغله الشاغل هو خدمة الكنيسة القبطية بدمياط وكان يذهب إليها ماشياً على الأقدام .
وفى يوم 21 مارس كان ماراً بطريق الكنيسة التى كانت مدافن الأقباط فى ذلك الوقت وكانت مسورة بسور كبير وكانت الكنيسة صغيرة لا تزيد عن قاعة متوسطة الحجم وكان من يذهب إلى الصلاة يذهب فى حذر وتخفى ، وكانوا يقولون بعضهم للبعض الآخر : " أنا ذاهب للسور " .
أما القديس مارسيدهم بيشاى فكان يذهب بشجاعة إلى الكنيسة مرات ، مما أثار عليه حنق بعض الأشرار فدبروا طريقة لمنعه . وبينما هو سائر فى طريقه بحارة الكنيسة إحتك به أحد الأشخاص غير المسحيين وطفق يمنعه من المسير إلى الكنيسة لكن القديس مارسيدهم بيشاى لم يعبأ به ولم يلتفت إلى أمره ( كان قد أمره قائلاً : إشمل يا نصرانى ) مما أثار سخط هذا الشرير ، فهاج وثار بالشتائم الردية حتى تجمهر حوله بعض الغوغاء والصبية ... وتصادف مرور مفتى البلدة فسألهم عن السبب ، فأخبروهم كذباً بالأمر مدعين على القديس مارسيدهم بيشاى زوراً ووجهوا إليه أتهامات باطلة خاصة بالدين فجعل المغتى يستشيط غضباً وغيظاً وصرخ قائلاً : " كيف تقولون أن الرجل النصرانى إستخف بالإسلام والمسلمبن وتطاول على نبيهم المرسل ؟!! " .
محاكمة القديس زوراً
أخذ المفتى من تلك الزمرة شاهداً زوراً وتوجها إلى المحكمة وبواسطتهما أثبتوا الإدعاءات الكاذبة على القديس مارسيدهم بيشاى ، الذى كان رجلاً كاملاً يزيد عمره على الأربعين عاماً هادئ الطبع مملوءاً محبة للجميع ومشهوداً له بالحلم والروية وسعة الصدر والورع ولا يمكن أن يتفوه بمثل ما نسب إليه ، وقد أمرت المحكمة بإحضاره من الكنيسة فمروا به على شارع السوق ، وفى أثناء مروره بالطريق كان يضرب ويهان من كل من صادفه فى الطريق وعندما يعلمون أمره كان ينهلون عليه بالضرب بالجريد على ظهره وعلى رجليه ونتفوا نصف لحيته ونصف شاربه بقصد الأستهزاء به وظلوا فى إضطهادهم لهم حتى مثل أمام القاضى الذى لم ينتهرهم ليسكتوا .
دفاع صديقه عنه
وتصادف مرور أحد أصدقائه وهو المعلم بانوب فرح إبراهيم وكان رجلاً شهماً ذا مكانة مرموقة بالبلدة فتدخل آملاًَ إنقاذ صديقه حيث قال للجمع : " أما كفاكم ضربه أفتجرونه أيضاً على وجهه !! " ، فحالاً ألتصقوا به أيضاً ولم ينج من أذاهم إذ قامت الجموع عليه وأوسعوه ضرباً بالجريد على رأسه كونه تكلم بهذا الكلام , وتذكر المخطوطة أنه كان ما يزال مريضاً من الضرب والرعب ولم تمض أيام على حالته هذه إلا وتنيح وقد وجد جسده مدفوناً أسفل جسد القديس مارسيدهم بيشاى .