" الجزء الثاني
ان كنا نتألم معه لكى نتمجد أيضاً معه " (رو8: 17) ... " لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبهاً بموته . " (فى3: 10)
وإذا كانت المسيحية هى الحب ، فالموت فى سبيلها هو قمة الحب والبذل بحسب تعبير اكليمنضس الاسكندرى : [ الاستشهاد ليس مجرد سفك دم ، ولا هو مجرد اعتراف شفهى بالسيد المسيح ، لكنه ممارسة كمال الحب ] .
[2] علمت المسيحية أن الانسان مخلوق سماوى :
السماء بالنسبة للإنسان هى الهدف الأسمى ، والغرض المقدس ، هى كل شئ بالنسبة له ، هى الكنز الحقيقى الذى يطلبه ويقتنيه .
هى وطنه الأصلى ومستقرة النهائى . هى الوجود الدائم مع الله .
فبداية الإنسان يوم خُلق كانت فى السماء ، وسوف تكون فيها نهايته حينما يعود إليها ... ومن هنا أحس الإنسان بغربته فى العالم . هذا العالم الفانى الذى سوف يمضى وشهوته معه .
وجعل كل أشواقه أن يعود إلى وطنه الأول السماء .. وأكدت أسفار العهد الجديد هذه الحقيقة ...
فيذكر معلمنا بولس الرسول فى رسالته إلى العبرانيين قائلاً : " فى الايمان مات هؤلاء أجمعون وهم لم ينالوا المواعيد بل من بعيد نظروها وصدقوها وحيوها وأقروا بأنهم غرباء ونزلاء على الأرض . " (عب11: 23) .
ويكتب إلى أهل كورنثوس ... " فإذا نحن واثقون كل حين وعالمون أننا ونحن مستوطنون فى الجسد فنحن متغربون عن الرب ... فنثق ونسر بالأولى أن نتغرب عن الجسد ونستوطن عند الرب . " (2كو5: 6،8) .
[3] وعلمت المسيحية أن الانسان المؤمن يجب أن تكون أشواقه نحو السماء
ويكتب معلمنا بولس إلى أهل كولوسى مشجعاً إياهم بقوله : " من أجل الرجاء الموضوع لكم فى السموات " (كو1: 5) ...
وفى هذا المعنى يكتب بولس الرسول قائلاً : " فإن سيرتنا فى السموات التى منها أيضاً ننتظر مخلصاً هو الرب يسوع المسيح " (فى3: 20) .
ويقول لأهل كولوسى : " اطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله . اهتموا بما فوق لا بما على الأرض " (1كو3: 1،2) ..
وانطلاقاً من هذا المفهوم أن الانسان مخلوق سمائى ، وأن أباه فى السماء ، فإنه فى صلواته يناجى الله فى السماء ، ويقدم صدقاته عالماً أنه يكنز فى السماء (مت19،20) . ويتشفع بالملائكة ، والقديسين الذين انطلقوا إلى السماء ..
بل وأكثر من هذا أن نفسه سوف تزف إلى العرس السمائى .. وبسبب كل هذه الأحاسيس والمفاهيم المقدسة كانت معنويات المعترفين والشهداء عالية جداً فى السجون .
كان غرض الأباطرة والملوك والحكام والوثنيين من سجن المعترفين المسيحيين ، هو تحطيم شجاعتهم واضعاف روحهم المعنوية . لكن على العكس ، كان حبس المعترفين وتعذيبهم سبباً فى اعلاء شجاعتهم . إنه أمر خارج حدود المنطق ، وفائق لطبيعة البشر المألوفة ، ان الأحزان تنشئ أفراحاً ، والضيقات تولد تعزيات ... لكنها المسيحية بمفاعيل النعمة الإلهية – بعمل الروح القدس فى المؤمنين هى التى تفعل ذلك ... فبعض شهداء قرطاجنة – بعد أن وصفوا أهوال السجن – قالوا : [ إننا لم نخشى ظلام المكان . فلقد أضاء السجن الموحش ضياء روحانى . ولقد كان الإيمان والمحبة كالنهار يفيضان علينا ضوءاً أبيضاً ] ... أما أسباب ذلك فكانت :
1) المعونة الإلهية التى وعد الله بها جميع الذين يضطهدون من أجل اسمه . (لو21: 12-19) .
2) التطلع بإيمان إلى المجد العظيم الذى ينتظرهم ، وأن المسيح له المجد
سيمسح كل دمعة من عيونهم (رؤ21: 4) .
3) تعاطف الكنيسة – بكل أعضاءها كجسد واحد – معهم ، سواء بالصلوات التى ترفع لأجلهم أو العناية بالاهتمامات المادية واحتياجات أسرهم .
4) الرؤى المجيدة التى كانت تعلن لهم ، وأن لها أعظم الأثر فى تشجيعهم . وأصبح السجن فى نظرهم باباً للسماء !! .
هكذا كان المعترفون فى السجون تفيض نفوسهم سلاماً ... كانوا يتعجلون موعد محاكمتهم – لا احتمالاً للأفراج عنهم ، بل لأنهم بوقفتهم أمام الحكام ، يشعرون أنهم يشاركون الرب يسوع فى وقفة محاكمته أمام بيلاطس البنطى .. وتتجلى هذه الروح المعنوية العالية ، والشجاعة المسيحية فى الحوار الذى جرى بينهم وبين قضاتهم ...
لم يكن للمتهمين الذين يتمسكون بالايمان المسيحى سوى رد واحد يجيبون به ، ظل يُسمع قرابة ثلاثة قرون فى ساحات القضاء بأنحاء الامبراطورية ...
أما هذا الرد فهو [ أنا مسيحى Christian us Sum ] أما صيحة الشعب الهائج التى كانت تعقب هذا الاعتراف فهو [ الموت للمسيحى ] ..
كان المتهم لا يجيب عن وضعه الاجتماعى فى العالم ، لأن الأمور الأرضية كانت تافهة القيمة فى نظره . حتى لو أراد القاضى أن يعرف ما إذا كان عبداً أو حراً ، وهو موضوع كان على جانب كبير من الأهمية فى تلك الأزمنة ، فإنه ما كان يهتم بالاجابة ... لأن كل فكره كان مركزاً فى الاهتمام بالانطلاق من هذا العالم الحاضر ليفرح بالاكليل المعد له من قبل الرب والميراث الأبدى . لينضم إلى كل الذين سبقوه من الشهداء والقديسين ليحيا معهم حياة التسبيح الدائم فى الفردوس .
إن الشهداء قبلوا الآلام ، لا للآلام فى حد ذاتها ولكن لأنها علامة الشركة الحقيقية التى تربطهم بالسيد المسيح له المجد الذى قبل الآلام لأجلنا ليهبنا الحياة الأبدية .
إن سحابة الشهداء مازالت مضيئة فى الكنيسة إلى يومنا هذا ، وهم يتشفعون أمام المسيح لأجل اخوتهم إلى أن يكمل العبيد رفقائهم .