الجزء الاول
مقـدمــة
قصة الاستشهاد فى تاريخ الكنيسة المبكر ، هى قصة المسيحية المبكرة وانتشارها عبر الزمان وفى كل مكان حية مضيئة الطريق ، طريق الملكوت بنور الايمان الحقيقى الذى وهبه الرب لنا لا عن استحقاق بل بحبه الفائق الذى تجلى على الصليب ، إذ قدم ذاته ذبيحة كفارية عن العالم ، لكى يهب الخلاص والحياة الأبدية لكل الذين يؤمنون به ويريدون أن يحيوا حياة القداسة الحقيقية سائرين على طريق الملكوت فى جهاد مستمر طول الحياة . أعمالهم مضيئة أمام عيوننا وثمار فضائلهم نتذوقها ، فنذوق طعم الأبدية .
لهم الأكاليل المعدة فى السماء ، أكاليل الاستشهاد وأكاليل الغلبة والعفة والخدمة ، وأكاليل البذل والعطاء والشهادة للمسيح الذى أحبنا وبذل ذاته لأجلنا لكى يحضرنا قديسين وبلا لوم قدامه فى المحبة .
إن الاستشهاد المسيحى بنتائجه هو برهان عملى على صحة قول السيد المسيح له المجد : " إن لم تقع حبة الحنطة فى الأرض وتمت فهى تبقى وحدها . ولكن إن ماتت تأتى بثمر كثير . " (يو12: 24) ..
ويقول القديس يوستينوس الشهيد : [ها أنت تستطيع أن ترى بوضوح أنه حينما تقطع رؤوسنا ونُصلب ، ونلقى للوحوش المفترسة ، ونقيد بالسلاسل ، ونلقى فى النار ، وكل أنواع التعذيب ، أننا لا نترك إيماننا . بل بقدر ما نعاقب بهذه الضيقات ، بقدر ما ينضم مسيحيون أكثر إلى الايمان باسم يسوع المسيح .
إن الكرام يقطع أغصان الكرمة التى تحمل ثماراً ، حتى تنمو أغصان أخرى . وهذا يصيرها أكثر حيوية وأكثر اثماراً . وهذا ما يحدث معنا . فالكرمة التى غرست بواسطة الله مخلصنا يسوع المسيح هو شعبه ] .
لقد آمن كثيرون بسبب آلام الشهداء وموتهم ، بما صاحب استشهادهم من معجزات ، وما أظهروه من ثبات واحتمال وصبر وليس من المبالغة فى شئ إن قلنا أن الايمان المسيحى انتشر فى العالم كله باستشهاد القديسين ، أكثر مما انتشر بوعظ المبشرين وتعليمهم ... فدماء الشهداء روت بذار الإيمان فنما الايمان وأتى بثمار كثيرة لحساب ملكوت الله .
لقد كسب المؤمنون المسيحيون الأوائل نفوساً كثيرة . ونالوا هذا الكسب بموتهم أكثر مما نالوه بحياتهم أو معجزاتهم ...والشهداء قدموا برهاناً عملياً على صدق تعاليم المسيحية وفضائلها ...وكما تختبر المعادن بالنار ، كذلك تختبر الفضائل بالآلام والضيقات ... وكانت الاضطهادات العنيفة التى قاستها المسيحية ، برهاناً على أصالة فضائلها .
لقد أثبت الاستشهاد أصالة الفضائل التى علمت بها المسيحية ، متجسدة فى أشخاص المعترفين والشهداء ، الذى لم تقوى آلامهم المبرحة على تحويلهم عن الفضيلة وسموها فى شتى صورها ...
ويقول يوسابيوس المؤرخ الكنسى الذىعاش وسط الاضطهادات بخصوص عفة وطهارة العذارى والنساء : [ لم يكن النساء أقل من الرجال بسالة فى الدفاع عن تعاليم الكلمة الإلهية ، إذ اشتركن فى النضال مع الرجال . ونلن معهم نصيباً متساوياً من الأكاليل من أجل الفضيلة . وعندما كانوا يجروهن لأغراض دنسة ، كن يفضلن تسليم حياتهن للموت عن تسليم أجسادهن للنجاسة ] !! .
والسؤال الذى يطرح أمامنا ، ما الذى دفع المسيحيين لاحتمال أهوال العذابات التى تصيب الانسان بالهلع لمجرد سماعها ؟! .
الاجابة على هذا السؤال الذى يبدو غريباً على أذهاننا وعلى مفهومنا ما يلى :
[1] قدمت المسيحية مفهوماً جديداً للألم ...
لم يعد الألم أمراً يتعلق بالجسد ، لكن غدا له مفهوم روحى يرتبط بالحب – محبة المسيح !! ونحن نرى الحب فى شخص المسيح يسعى نحو الألم ليستخلص من براثنه من اقتنصهم ، ويحرر من سلطانه من أذلهم ...
لقد تغيرت مذاقة الألم ، وأصبح صليب الألم شعار المجد والغلبة والنصرة ، بل الواسطة إليها ...
فى المسيحية ننظر إلى الصليب على أنه علامة الحب الذى غلب الموت وقهر الهاوية ، واستهان بالخزى والعار والألم !! .
لقد أصبح احتمال الألم من أجل المسيح هبة روحية ... " لأنه قد وُهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضاً أن تتألموا لأجله ." (فى1: 29) .
وهكذا تبدلت صورة الألم ومذاقته فارتفع إلى مستوى الهبة الروحية !!. وأصبح شركة مع الرب فى آلامه :